حضور الأدب الجزائري المعاصر في الحقل الأدبي الفرنسي

Publié le par Mohamed DAOUD

حضور الأدب الجزائري المعاصر في الحقل الأدبي الفرنسي

محمد داود

أستاذ بجامعة وهران

و باحث بمركز البحث في الأنثروبولوجية الاجتماعية و الثقافية

تمهيد منهجي

إن الحديث عن حضور الأدب الجزائري في الحقل الأدبي الفرنسي، يحيلنا بالضرورة على عدة إشكالات ومفاهيم التي برزت في المجال النظري مثل أدب الأقلية (Littérature mineure) كما عرفه جيل دولوز (Gilles Deleuze) وفيليسك قواتاري(Felix Guattari) [1] والدراسات ما بعد الكولونيالية والأدب العالمي، و غيرها من المفاهيم و المصطلحات.

إن هذه المفاهيم والإشكاليات تدفعنا لامحالة إلى التساؤل عن الأدب الجزائري وبخاصة الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية التي وجدت صداها لدى القارئ الآخر في دور نشره و مؤسساته الأدبية، كما تدفع بنا هذه الوضعية إلى التطرق إلى تاريخ هذا الأدب في صيرورته وفي تعامله مع الآخر، وفي رؤيته للآنا في علاقته مع الغير.

تذكير تاريخي:

وإذا حاولنا الانطلاق من البداية الجنينية لهذا الأدب، يمكننا القول أن هذا الأدب الروائي قد نشأ في أحضان المؤسسات الإيديولوجية الفرنسية المرتبطة بالوضعية المتروبولوبية أي ما يمكن تسمية بالمركز والهامش.

فحضور اللغة الفرنسية في الجزائر المحتلة، كان له عدة أهداف تدخل كلها ضمن محاولات إدماج نخبة معينة من الجزائريين لتشكل همزة وصل و وساطة بين الإدارة الاستعمارية والسكان الأصليين، وكذلك إظهار نجاح "المهمة الحضارية" لهذا الاستعمار، فكانت المدرسة من أشد الوسائل تأثيرا في مسار تكوين هذه النخبة التي بدأت تبرز على مستوى الكتابة و التأليف .

لقد توجهت هذه الكتابات منذ البداية إلى الفرنسي الذي يقيم بالمتروبول ، باعتبار أن الفرنسي الكولونيالي هو العدو الذي يجب التخلص منه والقضاء عليه، بالاستعانة بذلك الفرنسي الذي يقيم خارج الأرض المحتلة و الذي يتحدث المعمرون باسمه. ومن هنا يتبين "أن العلاقة التي يقيمها الكاتب المستعمر مع اللغة المفروضة عليه ومع اللغة المنسية، المكتوبة أو المحافظ عليها، أنه يقدم كتابة ذات طابع خاص لا يمكن إسنادها إلى فرنسا"[2].

و هكذا فحضور الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في حقل المنشورات الفرنسية ليس جديدا، فقد رافقت المؤسسات النشرية الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية منذ نشأته الأولى، أي في الفترة التي توسطت الحربين العالميتين. وعلى الرغم من عددها القليل، فقد استطاعت هذه النصوص أن تعبر عن السياق الكولونيالي آنذاك، إذ تميز هذا الوضع بالهيمنة التامة على كل مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، ولم يبق للسكان الأصليين سوى الاستسلام والخضوع، فكل الثورات الشعبية و الانتفاضات المقاومة (منذ الأمير عبد القادر إلى نهاية القرن التاسع عشر) لم تصمد أمام جبروت القوة المحتلة. وكان من الطبيعي أن تحاول الإدارة الفرنسية بعد أن سيطرت على الأرض ، أن تسيطر على العقول و على المخيال.

و هكذا بدأت عملية الاندماج تأخذ مجراها من خلال التعليم المدرسي، فجاءت هذه النصوص الروائية لكل من ولد الشيخ محمد، والحاج حمد وشكري خوجة...وغيرهم لتعبر عن أدب مهيمن عليه و خاضع، أي "صغير" يمثل فئة من الجزائريين المحظوظين الذين انخرطوا في النظام الاستعماري وقبلوا به، فكان مقام أدبهم غامضا فهو من جهة يعبر عن "القبول بالأمر الواقع، ومن جهة أخرى هو تأكيد للذات مقرونة بإعادة نظر لاستغلال النظام، وعلى أية حال، لم يتم ذلك على المستوى الصريح[3]. كان تعلم اللغة الفرنسية آنذاك يشكل أحد السبل لإسماع صوت المستعمر إذ كان الملتقي في تلك الفترة، في أغلب فئاته يتشكل من الوافدين الجدد على الأرض الجزائرية.

وهو الأمر الذي جعل هذا الأدب يخضع في مجمله لهيئات النشر و التوزيع، وقد برز ذلك من خلال كتابة تقديم لهذه النصوص، حيث انبرى الكتاب الفرنسيون للقيام بهذه المهمة. و في هذا المقام، أما الأدباء الجزائيون فقد كانوا على وعي تام "بأنهم دخلاء على عالم لا ينتمون أليه، فقد حاولوا قدر الإمكان إيجاد تدعيم من قبل عراب يمثل القوة الحامية لهم"[4] .

كشفت هذه الممارسات عن تصورات كولونيالية بحتة تجلت في الإعلاء من شأن الاحتلال والاعتراف بمزايا "المهمة الحضارية" للاستعمار الفرنسي، إلا أن هذا الأدب كان يتأرجح بين انخراطه في النظام الاستعماري على المستوى الظاهر ولكنه ظل يدافع عن استقلال الذات والهوية على المستوى الباطن.

مما يجعلنا نقول و بشكل بديهي، أن الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية هو نتاج للفترة الاستعمارية، و قد بقي الأمر كذلك مع مختلف المراحل التي أعقبت العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي. إذ شهدت هذه الفترة ميلاد الحركة الوطنية بأحزابها المختلفة التي دعت فيما دعت إلى استقلال الذات و الوطن معا عن النظام الكولونيالي.

وقد شكلت نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 المنعطف الكبير الذي دفع بالحركة الوطنية إلى التجذر في مطالبها و في دعوتها لإقامة القطيعة مع النظام الاستعماري، والدخول في عملية الخروج عن "الطاعة" و عن الهيمنة. و تم ذلك بعد أن قابلت الادارة الاستعمارية الشعب الجزائري، الذي شارك أبناؤه في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء، بالقمع الرهيب والمجازر الجماعية.

واثر ذلك برز في الحقل الأدبي ما يسمى بجيل الخمسينيات، و يمثله كل من الروائيين مولود فرعون، محمد الديب، مولود معمري، كاتب ياسين أولا، وفيما بعد مالك حداد، وآسيا جبار....إذا يقوم هؤلاء "بإقحام الأهلي غير المنمط في المشهد الروائي وهو متمثل وفق رؤية من الداخل ذات جاذبية أو مقبولة أو منزوعة الوهم"[5]. لعل هذه النصوص التي نشرت فيما بعد الحرب العالمية ستعطي هوية جديدة تتميز بالمقاومة الواضحة للآخر إذ تتموقع بصفة جدية في الساحة الثقافية للنضال من أجل هوية مستقلة تريد الانعتاق و تسعى إلى تكسير الصورة النمطية التي ألصقها المحتلون بالسكان الأصليين، الذين تحولوا - في هذه النصوص- من موضوع إلى ذات تشارك في الفعل الاجتماعي، على خلاف النصوص السابقة التي اتصفت بنوع من التذبذب في المواقف والمواقع بهويتها المضطربة.

سمحت تلك المرحلة للمشروع الاندماجي بالسعي إلى ضم تلك "النخبة" التي اختارت تعلم اللغة الفرنسية في أحضانه، ليجعل منهم فرنسيين بالكامل، لكن المسألة لم تكن سهلة حيث سوء التفاهم و الأحكام الجاهزة هي التي انتصرت في نهاية المطاف. كانت الكتابة باللغة الفرنسية و التوجه للآخر في لغته، بالنسبة لهؤلاء تمر حتما عبر ضرورة القبول ب"صفقة" تنص على تأكيد "غياب ذات الأنا الجماعية و بالتالي التوصل إلى اندماج فردي في الآخر"[6]. إن الرغبة في تعلم اللغة الفرنسية أصبحت مطلوبة لدى الجزائريين الذين كانوا يطمحون لامتلاكها و جعلها وسيلة للدفاع عن حقوقهم الاجتماعية و المدنية و الانخراط في العمل السياسي الذي دعمته الأحزاب الوطنية الناشئة...

وقد انتبه الناشرون الفرنسيون (لو ساي Le Seuil، دينويل Denoel، بلون Plon وجوليارJulliard ) لهذا الأدب المقاوم وتوجهوا لرعايته و ترقيته و إعطائه الشرعية الأدبية، إذ أصبح النص الأدبي الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية " الذي يعيد النظر في المجتمع الكولونيالي و ينتقد العادات القديمة و التناقضات الراهنة، يعتبر في نظر من يعرفونه على أنه "أخذ للكلمة"[7] ، بعد تم تغييب رأيه في تدبير الأمور. فكان الأدب وسيلته المفضلة في اسماع صوته لدى الرأي العام الفرنسي، الذي كانت تقام باسمه العديد من المظالم، وهكذا ارتبط مصير هذا الأدب بالحقل الأدبي الفرنسي.

و بعد حصول الجزائر على الاستقلال، تحول الأدباء الجزائريون إلى تمجيد الثورة الجزائرية و"استعادة" الهوية المغتصبة، و قد كان على السلطة الوطنية أن تسطر برنامجا سياسي و ثقافي يتمثل في نشر اللغة العربية لتأخذ مكان اللغة الفرنسية، إلا أن انتشار اللغة الفرنسية لدى الجزائريين قد تضاعف بسبب تعميم التعليم و غياب المدرسين باللغة العربية أو قلتهم.

فلجأت أجهزة الدولة إلى تهميش و تقزيم الأدب المكتوب باللغة الفرنسية، إلا أن محاولات قلب المعادلة اللغوية في الجزائر لم تعرف نجاحا، بحكم أن الكتابة الروائية باللغة العربية لم تظهر إلا في السبعينيات من القرن الماضي و لم تستطع فرض نفسها في الحقل الأدبي الجزائري إلا في الثمانينيات.

و هو الأمر الذي جعل الأدب الروائي المكتوب باللغة الفرنسية يدخل في حالة تمرد مع الخطاب السياسي المهيمن. فرواية " المؤذن" لمراد بوربون و رواية "التطليق" لرشيد بوجدرة هما نموذجان للاحتجاج الأيديولوجي و السياسي الذي احتل مكان تمجيد الثورة التحريرية. فقد شعر الأدباء آنذاك بخيبة أمل كبيرة و فقد الاستقلال بريقه بسبب مصادرة السلطة للثورة و حرمانها للشعب من حريته المكتسبة بالتضحيات الجسام. فكل النصوص التي تم نشرها فيما بعد أخذت على عاتقها مواصلة الدرب و الانخراط في هذا المسعى الاحتجاجي على السلطة السياسية وتعرية المجتمع و انتقاده في جوانبه السلبية. و لكن هذا الأدب أصبح محاصرا و مهمشا بحكم أنه غير التوجه الأصلي الذي بنى عليه شرعيته و المتمثل في الاحتجاج على العنف الممارس من قبل الآخر، ليتحول إلى نقد الأنا و التنديد بممارساتها. كان الاعتقاد السائد آنذاك أن هذه الكتابة ستعرف الزوال و تضمحل لتأخذ الكتابة باللغة العربية مكانها وفق الخطة المرسومة من طرف السلطة السياسية في تعريب الثقافة و وسائل الاعلام و التعليم، لكن هذا الأدب المكتوب بلغة الآخر ازدهر و عرف تقدما لا مجال لنكرانه، و بخاصة في الثمانينيات. سيقدم هذا الأدب أسماء جديدة مثل رشيد ميموني و الطاهر جاوت، تواصل نقدها للخطاب الرسمي الذي يستغل الثورة ورموزها لإضفاء الشرعية على حكمه، كما تسخر منه في خطاب أدبي حاد. فهذا الأدب المهمش من قبل المؤسسات الأيديولوجية للدولة يرد بالمثل و"يواجه العنف الرمزي المتمثل في تقزيمه و نزع الشرعية منه بالتزام ممارسة احتجاجية للمقولات المؤسسة للشرعية الذاتية التي تتبانها الأيديولوجية الرسمية"[8].

فقد تنبأت هذه الخطابات الأدبية بالأحداث القادمة و الانفجار الذي لا مفر منه، فكان أحداث أكتوبر 1988 التي أنهت بصفة عنيفة ما يمكن تسميته بالإجماع الوطني و حكم الحزب الواحد. إذ تعرف الجزائر اثر ذلك، تعددية حزبية و انتخابات أدت إلى فوز الاسلاميين في تشريعيات 1991، مما اضطر السلطات العمومية إلى توقيف المسار الانتخابي و هو الأمر الذي جعل الجزائر تدخل في دوامة من العنف الهمجي. فمس هذا العنف كل الفئات من رجال الأمن و الجنود و رجال السياسة و الفاعلين الاجتماعيين و الاعلاميين و المثقفين و الأدباء، و كانت البداية مع الأديب الفرانكفوني الطاهر جاوت، رمز الأدب الفرنكفوني المقاوم، لكن الاغتيالات لم تتوقف عند هذا الحد، بل شملت جميع المثقفين بمختلف توجهاتهم و لغاتهم. عاش الجزائريون مرحلة كارثية بكل المواصفات، لكن من المفارقات الغريبة، أن الأدب عرف في هذه الفترة ازدهارا ذا شأن كبير. وقد تمت تسمية هذه الكتابات بشكل متسرع ب"الأدب الاستعجالي"، كانت الغاية وراء هذه النصوص تقديم الشهادة حول ما ترتكبه الجماعات المسلحة من فظائع شنيعة في حق الفئات الشعبية و في نخبها، فهي "كتابة الرعب " كما يسميها رشيد مختاري[9]. صار الكتاب يكتبون من أجل " جمع شظايا هوية ممزقة، و لقول الذات ولإعلام الآخر، كل الأخرين. إن هذه المجزرة لا تساويها إلا ممارسات النظام الكولونيالي المنتصر، و كذلك ممارسات وحشية تم ارتكابها في أماكن أخرى و في أزمنة أخرى"[10]. و قد كان وراء هذه النصوص مجموعة من الأدباء والصحفيين الذين امتهنوا الأدب، تم ذلك بعد هجرتهم من الجزائر تحت ضغط و تهديد الجماعات المسلحة. و لعل اقامتهم في فرنسا و على وجه الخصوص بمدينة باريس و استعمالهم للغة الفرنسية قد منحهم فرصة كبيرة للظهور و لتداول أسمائهم و كتاباتهم من قبل دور النشر وسائل الاعلام الفرنسية. كانت مدينة باريس تمثل بالنسبة للكثير منهم "عاصمة الجمهورية العالمية للآداب" حسب تعبير باسكال كازانوفا[11] (P.Casanova). و بحكم استعمالهم للغة الفرنسية، تم اتهامهم من قبل الاسلاميين بالتنكر للهوية العربية الاسلامية و بدعم طغاة النظام العسكري بالجزائر و كذلك بالولاء لفرنسا، عدو الأمس.

وخلافا لبلدهم الأصلي، حيث تغيب تماما هيئات التثمين و الاعتراف، وجد هؤلاء في المؤسسة الأدبية الفرنسية القوية كل الدعم و التبني من خلال وساطات جد هامة مع القارئ عبر لقاءات البيع بالتوقيع التي تضمن التواصل المتكرر مع القراء و مع وسائل الاعلام المكتوبة و المسموعة و المرئية.

ستستمر دور النشر الفرنسية في مرافقة هذه الكتابات مثلما جرى مع الأجيال التي سبقت، كما أن اصدار مجلة "ألجيري، ليتيراتور /أكسيون " (Algérie, Littératuire/Action) سيساهم بدوره في تسليط الضوء على الكتاب الجدد الذين وفدوا إلى الساحة الثقافية و لفت انتباه دور النشر الفرنسية لهذه الابداعات النصية. لا يكمن "دور هذه النصوص الروائية في وصف الواقع المفجع فحسب، بل الاسهام أيضا في التعريف بكتاب أجبروا على التنقل أو هم في الطريق إلى التنقل من بلدهم" [12]. سيمكن استعمال اللغة الفرنسية هذا الأدب من احتلال مرتبة هامة داخل الحقل الفرنسي و قد ساعده في ذلك السياق السوسيو-سياسي الذي تميز بصخب اعلامي وسياسي و فكري ركز اهتماماته على الأحداث التي عرفتها الجزائر في تلك المرحلة.

ولهذه الأسباب مجتمعة نشأ الأدب الروائي الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في ظل عملية قيصرية، لم تكن طبيعية، بل ذات خلفيات و أبعاد ثقافية ولغوية هيمنت فيها المؤسسات الاستعمارية (مدرسة، دور النشر، وتلقي....). وهو الأمر الذي يجعلنا نزعم أن هذه الآداب "صغيرة" والمقصود بذلك وهو"أن الأدب الصغير ليس أدب لغة دونية أو لم تبلغ سن الرشد، بل أدب أقلية تكتب في إطار لغة بلغت تمثل الأغلبية. وتتميز هذه الآداب بكونها تبتعد عن الإقليم أو للأقلمة أي أن الأدب أصبح يشكل ممرا لإيقاظ الوعي الوطني، أما الميزة الثانية التي تخص هذا الأدب الصغير، يتمثل في أن كل شيء فيه يتضمن السياسة، وأخيرا الميزة الثالثة وهي القيمة الجماعية التي يملكها هذا الأدب. ومهما غرق هذا الأدب في الذاتية وفي الغير ذاتية، فإن هذه الجوانب تختفي ليصبح لسان حال الجماعة سواء وعى ذلك أم لم يعه[13].

و إن اتفقنا مع هذا الطرح، أي النزعة المقاومة التي تميز الأدب الصغير، و في مراحله السابقة، فإن الأمر يختلف مع الأدباء الذين ظهروا في التسعينيات و رافقوها و استمروا في الكتابة مع بداية الألفية الثالثة، من أمثال ياسمينة خضراء و بوعلام صنصال.

و لعل الاختلافات الذي تخص كل روائي على حدة، تجعلنا نتساءل عن حضور هذا الأدب في الحقل الأدبي الفرنسي، و عن الاستراتيجيات التي يعتمدها كل واحد لبلوغ القارئ، و نوعية الموضوعات التي يتطرق إليها كل روائي و عن كيفية معالجتها من قبله.

ياسمينة خضرة و استراتيجية الانخراط في الأدب العالمي:

يتميز ياسمينة خضراء بمسار غريب نوعا ما، حيث بدأ الكتابة وهو جندي في صفوف الجيش ،لكن هذه الوظيفة لم تمنعه من كتابة الأدب الروائي، وقد كان آنذاك يوقع نصوصه التي كانت تنشر في الجزائر باسمه الحقيقي محمد مولسهول، قبل آن يتخذ لنفسه اسما مستعارا، والمتمثل في ياسمينة خضراء .

في واقع الأمر لم تلفت هذه النصوص الأولى، انتباه القراء والنقاد لأسباب متعددة، مما يدفع إلى التساؤل عن مكانة هذه الإنتاج الروائي الذي تم نشره في الجزائر في الثمانينات والتسعينيات. أيكمن ذلك في المستوى الفني للكتابة الروائية لدى المؤلف ؟أم أن نقص تداول نصوص الروائي يخضع إلى حقل أدبي غير مكثرة بالمواهب الأدبية ؟

يبدو أن تلقى هذا الأدب يرتبط بالنظرة التي يحملها المجتمع لوظيفة الكتابة ، وهي وظيفة قد فقدت قيمتها واضمحلت في مواجهة احتياجات اجتماعية ورمزية ينظمها ويرتبها ويتحكم فيها حقل اجتماعي وسياسي وثقافي ، حيث يعيش الأدب والمكتوب منه باللغة الفرنسية خاصة، حالة من التهميش لأسباب سياسية ولغوية وإيديولوجية. ولعل النصوص العديدة التي يمكن تصنيفها في مجال الكتابة الأدبية "لا تملك ،على ما يبدو، وجودا قانونيا، إلا لدى المختصين في علم البيبليوغرافية ، لكنها تتجمع ضمن فجوات وهوامش تاريخ مكرس" فهو أدب يعيش حالة تأجيل حسب ملياني الحاج[14] ،وهكذا فتلقيه هو كذلك مؤجل إلى زمن غير مسمى. و هل سيتغير الأمر من حيث التوزيع والتلقي، بالنسبة لهذا الأدب؟

من الواضح، أن مجرى الأحداث بدأ يتغير بكل تأكيد، ولعل تجربة ياسمينة خضراء مثال صريح على هذا التغير. إن الظروف التي واجهت هذا الأديب في مسيرته كان معقدة جدا ، إذا كان عليه أن يجابه عدة تحديات ومنها التحفظ الملزم للعسكري :أي الكتابة والنشر ضمن محيط حيث يختفي الفرد أمام الانضباط المفروض من قبل القيادة ، كان ذلك صعبا على محب للأدب يملك طموحا لا مثيل له.

و تضعنا روايته "الكاتب" (2001) في الصورة عن المتاعب التي عانى منها الجندي الصغير الذي دفعه أبوه ، وهو عسكري التكوين، إلى الانخراط بشكل كلي في هذه المؤسسة ، فقد نشر في البداية ثمان روايات ، دون يعرف النجاح الذي كان يصبو إليه ، ولم تتحقق أمنياته وأحلامه.

ومن ثم لجأ إلى كتابة الراوية البوليسية لتوسيع دائرة قرائه في جزائر التسعينات ، لكن لم يستطيع الأديب التواصل مع القارئ الفرنسي إلا في سنة (1997) بعد أن نشر روايته "موريتوري" في داربالين وهي عبارة عن رواية بوليسية تمزج بين مغامرات شرطي يحارب تجاوزات نظام سياسي و هو في خدمة هذا النظام في ذات الوقت.

لقد نالت هذه الرواية نجاحا باهرا ، وشكلت بداية لمغامرة ثقافية في حقل أدبي يعد بالكثير ، فيواصل نشاطه الأدبي بنشره تباعا "خريف الأوهام" و"الأبيض المزدوج" في سنة (1998) ، تمكنه هذه الثلاثية من ولوج الحقل الأدبي الفرنسي و التعريف بأدبه في عالم الآداب الذي كان يحلم به ، لكن مع الاحتفاظ بالغفلية و التستر عن هويته الحقيقية .

لقد لعب الدعم الذي لقيه رجال الأدب الجزائريين المهددين بالانقراض في بلدهم ،من قبل المثقفين و وسائل الإعلام و دور النشر الفرنسيين، دورا كبيرا في التعريف بهذا الأدب.

كان الجو الثقافي و السياسي آنذاك مناسبا للأديب و لغيره من الأدباء، وكان عليه استغلال الظرف والاستفادة مما يمنحه من فرص، فكان عليه أن يغير من موضوعاته واختيار ما يناسب الأحداث وما يستجيب لطلب القراءة، فينشر روائيتين حول العنف في الجزائر "خرفان المولى" (1998) و "بم تحلم الذئاب" في(1998) في دار جوليار .

وهكذا تتحول رهانات الكتابة بشكل جديد و تأخذ منعطفات مع دار النشر جوليار ، كما ستعرف معها استراتيجيات الانخراط في النموذج الفرنسي للنشر.

فينشر ياسمينة خضراء ، ثلاثية جديدة تعالج موضوع العنف الذي تعرفه بعض البلدان حيث تتكرر النزاعات المسلحة وتحدث العديد من الضحايا : أفغانستان بالنسبة لرواية "سنونوات كابول" (2002) ، إسرائيل بالنسبة لرواية "الاعتداء")2005 ( و العراق بالنسبة لرواية "صفارات إنذار بغداد" (2006) .

وقد شهدت هذه الثلاثية نجاحا تجاريا وإعلاميا باهرين، تجاوز الحدود الفرنسية ،ولقد تزامن نشر هذه النصوص مع قترة عرف الإرهاب الإسلامي ذروته وبخاصة مع أحداث سبتمبر (2001) التي صدمت بعنفها الكبير البشرية جمعاء.

اختار الكاتب هذا التوجه ، المتمثل في وصف هذه الحركات المسلحة من أجل فهم الآليات التي تتبناها في الممارسة الميدانية وفي التعبئة الإيديولوجية. وبعد خصومة لم تدم طويلا مع مجموعة كبيرة من الإعلاميين والمثقفين الفرنسيين بسبب خرجته العلنية بصفته عسكري سابق في صفوف الجيش الوطني الشعبي، ليدافع عن هذه الهيئة في النقاش الدائر حول "من يقتل من؟" في الجزائر، و يوضح الأديب ذلك في كتابه "مكر الكلمات" (2002)، لكن هذه المتاعب لم تثن على مساعيه في توسيع قاعدته من القراء، من خلال التواصل مع القراء ومن خلال رغبته في فرض نفسه في حقل أدبي بوصفه فاعل اجتماعي.

و في هذه الفترة سيستقر ياسمينة خضراء بفرنسا بعد إقامته القصيرة بالمكسيك، من أجل الاقتراب من الجو الأدبي الفرنسي. و يتضح من خلال مسعاه في الكتابة، أنه تحول إلى عوالم أخرى للتواصل مع الأخرين، بعد أن تناول التهديد الإرهابي خلال التسعينيات بشكل كبير، إذ يرى أن هذا التهديد لا يستثني أحدا.

ولتبليغ ذلك للقارئ و التواصل معه يلجا الأديب إلى منهجية تتخذ من النجاح إستراتيجية، وتنطلق اختياراته الموضوعاتية و الاجناسية من دراسة مسبقة لأفق انتظار جمهور القراء[15]، وباختيار دار جوليار للنشر، فقد انخرط في حقل الإنتاج الواسع، حسب تعريف بيير بورديو[16]، لأنه يريد أن يتصل بأكبر عدد من القراء لتوعيتهم بخطورة الوضع وتفكيك أسبابه و عوامله الرئيسية للظاهرة الارهابية، التي تعدد مصادرها، منها الإيديولوجي و السياسي أو الإنساني .

وقد ساعدته في ذلك التغطية الإعلامية الكبيرة لهذه الأحداث، مما شكل لديه فرصة سانحة للإجابة عن العديد من الأسئلة و لفت انتباه القراء و ترغبيهم في تناول أعماله. فالظاهرة الارهابية التي تتبنى الخطاب الديني الإسلامي قد أصبحت موضوعا طاغيا في كل الخطابات السياسية و الإعلامية. إذ اجتاحت الأيدولوجية الإسلاموية كل المناطق، ولم يعد لها حدود ، فهي لا تملك سوى الأعداء لتحاربهم ولتقضي عليهم بكل الوسائل التي تملكها تكنولوجيا الرعب. فإن نمت و تطورت هذه الأيدولوجية في البلدان الشرق الأوسط أو بلدان الشرق الأقصى، فإن أهدافها موجودة في كل مكان، و حتى داخل البلدان التي عرفت نشأتها و نموها و وسائلها الأيدولوجية، وكذلك في البلدان البعيدة مثل أوروبا وأمريكا.

فمنحت معالجة مثل هذه الموضوعات لصاحبها بعدا عالميا إذا تمت ترجمة أعماله إلى العديد من اللغات و تم اقتباسها للسينما، كما تدفقت عليه الجوائز و التشريفات، فأصبح يحظى بالاعتراف وتمكن من احتلال مكانة معتبرة ضمن النقاش العالمي حول القضايا الساخنة.

ولعل الحوار الذي خص به جريدة الوطن الجزائرية في 11جوان 2006، و الذي تحدث فيه عن روايته "الاعتداء" التي أثارت جدلا واسعا ،يوضح لنا مسعاه، إذ يصرح بأنه يريد التوجه مباشرة إلى القارئ الغربي الذي يخلط بين الإسلام و الأصولية (...) أي الحديث عن الأشياء التي لا يريد الغرب سماعها على الإطلاق.[17]

ولا يتوقف الإنتاج الأديب لهذا الكاتب عند هذا الموضوع، فالعلاقة الحساسة التي تجمع بين الجزائر و فرنسا نالت حظها وقد كان عليه أن يقرأ التاريخ من وجهة نظر غير مألوفة، حيث ألف "فضل الليل على النهار (2008). إذ يقوم بفحص ذاكرة الشعبيين (الجزائري والفرنسي) اللذين يعيشان في الفترة الاستعمارية على أرض واحدة ، فتحمل الرواية في طياتها رسالة صداقة للشعب الفرنسي، بغض النظر عن الصراع و الاختلاف و الخلاف، وهو بذلك يحطم العديد من الطابوهات التي ظلت مصدرا لسوء الفهم في الكثير من الأحيان. فالدعوة للمقاسمة وللحوار وللتسامح و تبني القيم الإنسانية التي تتضمنها رواياته، تجعل من هذه الكاتب وسيط قوي بين الثقافات العالمية.

وتنحي المنحنى نفسه روايته " المعادلة الإفريقية " التي صدرت سنة (2011) التي تجري أحداثها بالفضاء الإفريقي حيث القرصنة و احتجاز الرهائن موضوعا للنص الروائي، حيث يشير إلى رؤية مختلفة للأشياء مما هو سائد في الغرب. " فالحدود لا تقبع سوى في الأذهان، لكن في الواقع الميداني، كل تهديد يعلن عن نفسه في مكان ما يتحول إلى خطر مشترك يجب أن يستفيد الجميع من كل ثروة " بالنسبة إلى هذا الكتاب[18]. فالخطاب الأدبي - في هذا المقام- يكون الوسيلة المفضلة لكل تواصل متداخل ثقافيا، حيث أنه يسلط الضوء على جوانب خفية من حياتنا البشرية.

إن تجربة ياسمينة خضراء تكد مرة أخرى أن الأدب الجزائري يطمح لتسجيل مكانته في الحقل الأدبي الفرنسي و كذلك الطموح لاحتلال مكانة هامة في الأدب العالمي.

بـوعلام صنصـــال و الرغبة في الاندماج الفكري:

إن تجربــة هذا الروائي فريـدة من نوعهــــا و هي غريـبـــة في مسارها، إذ تختلف عن التجربة السابقة بعدة مميزات، إذ جـــاء هــذا الروائـــي الـى الكتــابــة الروائيــة متأخــرا، اذ نشـــر أول روايـــة و هــو في الخمسيــن من عمــره تحت عنـوان " قســم البـرابـــرة " و قد نــال جــائـزة الروايــة الأولــى و جـائزة تروبيـك، و همــا جــائزتـان عــاليـتان القيمــة. و تدور هذه الأحداث في مدينة رويبة الجزائرية التي تعيش أجواء الارهاب و التقتيل، وبطله الرئيسي ضابط شرطة، يحاول لغز جريمة، ليصل إلى متاهات غريبة، فيقتل بدوره. و إن طغى التحقيق البوليسي على أجواء الرواية، فإن اشكاليتها هي سياسية في العمق، إذ يطرح الكاتب قضايا ذات بعد تاريخي يرتبط بالماضي و الحاضر و يحاول فك لغز الأحداث القائمة من خلال تاريخ الثورة التحريرية و نتائج الصراعات الداخلية التي عرفتها.

و بلـغ بـوعلام صنصـال شهــرة لا مثيـــل لهــا منذ نشره لروايته الأولى، فقد أصبح كاتبا معروفا و معترف به و بعـد نشــره لثلاث روايــات، هي كالتالي: "الولد المجنون الساكن بالشجرة المقعرة" (2000) و رواية "تكلم لي عن الجنة" (2003) و رواية "حراقة" (2003) و قد صدرت هذه الروايات كلها عن دار قاليمار، و هي دار نشر لها وزنها في الحقل النشري الباريسي. و تتحدث هذه الروايات الثلاث عن الوضع السياسي و الاجتماعي في الجزائري وتنتقده بشدة.

و في سنة 2008 ينشــر رواية تحت عنوان " قريــة الألمــانــي أو مذكــرات الإخــوة شيللـر"، التي تدور أحداثهـــا في الضاحية الباريسية و في قرية عين الدب بالجزائر. و يعـيد بــوعلام صنصـــال بهذا النص إلى الذاكــرة فصلا من فصــول الثــورة الجـزائــريــة و علاقــة جبهــة التحريـــر الوطنــي بالحركـة النازية. ويتم ذلك من خلال مذكرات راشيــل ابن هـــانس شيللــر الذي هـرب من ألمـانيـا بعد هزيمــة النـازيــة ليستقـر بمصر. و بعد مدة ينتقل لمساعدة جيش التحريــر الوطنـي بواسطة المخـابرات المصرية في عهد جمـال عبـد النـاصر. و يصبح، بعد حصول الجزائر على الاستقلال، رمـزا للثورة ولكنـه يقتـل خلال فترة التسعينيات مع زوجته الجزائـريـة الأصل.

يسافر راشيل إلى قرية الدب للوقــوف على قبر والديـه، فيكتشف حقيقة أبيه، و يشعر بالعار، فيقبل على الانتحار. أمـا أخوه مالريش الذي يسعى إلى معرفة الحقيقـة من مذكرات أخيه يقرر محـاربة الحركة الإسلاميـة بالضاحية الباريسية التي تحولت الى تهديد للنظام العـام، لتبنيها الأطروحات النازية.

إن مثل هذه الموضوعات، ستلقي حتما الحفاوة المطلوبة في فرنسا، لما يجده اليهود في الغرب عموما و في فرنسا على وجه الخصوص من استعطاف و تضامن. و المتتبع لمسار بوعلام صنصال يلاحظ أن هذا الروائي قد سخر قلمه للخوض بشكل مستفيض في النقاش حول تاريخ الثورة الجزائرية. و من البديهي القول أن هذا الموضوع لم يحظ بالدراسة اللازمة و المعمقة لدى المؤرخين الجزائريين و الفرنسيين، و هو الأمر الذي يدفع بالعديد من التساؤلات حول العقبات التي تقف أمام المختصين في التاريخ سواء من حيث المنهجية و توفر الأرشيف والوثائق. و يمكن القول في هذه الحالة، أن الروائي بوعلام صنصال في روايته "قرية الألماني" قد تأثر كثيرا بكتاب "الهلال و الصليب المعقوف" لصاحبيه روبير فاليقو (Robert Faligot) و ريمي كوفر (Rémy Kauffer) الذي صدر سنة 1990عن دار البين ميشال (A. Michel) و هو كتاب تاريخي يشير إلى التحالف بين الاسلاميين المتطرفين و القوميين العرب مع المخابرات النازية و لهذا تطرح مثل هذه الكتابات عدة اشكاليات حول أهدافها و مراميها، باعتبار أن لكتابة التاريخ وظيفة ايديولوجية تؤسس لعقد اجتماعي و لإجماع اثني أو وطني.

و من هنـا يقيـــم بـوعلام صنصال العلاقــة بين الثورة التحريرية و الحركـة النازيـة من جهــة ، و من جهة أخرى العلاقــة بين الحركة الإسلاميـة و الحركة النازية اذ يرى أن العلاقة بصعود الحركة الإسلامية في الجزائر و نموهــا في الضواحي الفرنسية له ارتبـاط واسع و هنا دور السلطة الجزائرية في قمعها للحريات، و عدم التفاتها الى الاشتغال على الذاكرة و بخاصة عدم التوعية بجرائم المحرقة مما تسبب في تدهـور الأوضاع السياسية و بالتالي سيطرة الإسلامييـن على الساحة الجزائـرية و من ثم في الضواحي الباريسيـة.

إن تجربة بوعلام صنصال تختلف عن تجربة ياسمينة خضراء، و على الرغم أن الأول يملك موهبة كبيرة في الكتابة، إلا أن الأول عرف كيف يتعامل مع القارئ، إذ حافظ على مكانته الأدبية في الجزائر، بينما فقدها الثاني و أصبح أدبه يعكس صورة "أدب مندمج" مثلما كان عليه الحال مع الأدب الجزائري الذي تمت كتابته في العشرينيات من القرن الماضي، و هو في وجد ضالته في الخطاب الكولونيالي. لقد اختا الروائي هذا التوجه بكل وعي و تحمل مسؤوليته. ربمايريد إعادة انتاج تجربة أدباء بلدان أوروبا الشرقية في فرنسا من أمثال سيوران و كونديرا أو تجربة الأدباء الايرلنديين من أمثال صمويل بيكيت، مع اختلاف الجغرافية و التاريخ لكل واحد منهما.

و كأن الروائي يريـد أن يثأر لنفسـه من " تعسف " النظام الجزائـري ضده، و بالتالي لكل ما يؤسس هذا النظام من تاريخ المتمثل في الثورة التحريرية التي قادتها جبهة التحرير الوطني التي نتج عنها هذا النظام. ويريد أيضا أن يقف موقفا نقديا حادا من الديـن الإسلامي الذي انتج الحركـة الإسلاميـة المتطرفـة و العنيفـة. و لعل ما لحق الجزائر من ارهاب و تدميـر و حرق اغتيــالات و قمـع للحريــات ، سمحت ببروز رؤى جديـدة، ترفض هذا الوضع و بشكل راديكالـي و بذاتية عميقة لا تخضع لأية عقلانية، إلـى حد التشكيـك في كل شيء. هذا بالإضافة إلى أن هذا الروائي، و كأنه يسعى إلى "اختصار الزمن" في مسيرته الأدبية و ربح الوقت الذي فاته، فحاول الاقتراب من المراكز النافذة في الحقل الثقافي و السياسي في باريس و نعني صحيفة "نوفل أوبسافتر" (Nouvel Observateur)، بعد أن وجد الرعاية الكاملة من قبل دار نشر قاليمار التي تعتبر من أهم المؤسسات النشرية في فرنسا.

هذا بالإضافة إلى أن الروائي يحاول ايهام القارئ بحقيقة و واقعية أحداث الرواية، و أن كتبه ممنوعة في الجزائر و أن السلطات قد عزلته من وظيفته. و هي استراتيجية "الضحية" التي يعتمدها الكثير من مثقفي العالم الثالث من أجل لفت الانتباه و الرعاية لدى الأوساط الثقافية والاعلامية في الغرب، و لكن هذا لا يعني أن بعض أولئك المثقفين لا يعانون من حصار و قمع في بلدانهم، إذا فالمسألة تحتاج إلى تدقيق و دراسة حالة بحالة. و قد تعتمد هذه الاستراتيجية في بلوغ النجومية، و وظف ذلك الروائي ليظهر في صورة "الضحية" و في ذات الوقت "المصلح" للأضرار. و قد نجح في تسويق اسمه و رواياته و نال العديد من الجوائز و بلغ مرتبة عالية في الاعلام الفرنسي لما زار الصالون الدولي للكتاب في باريس على الرغم من المقاطعة الشاملة له من قبل المثقفين العرب و حضر أيضا ندوة دولية للأدباء بإسرائيل.

إن مثل هذه النصوص لا تؤسس لحوار هادئ بين الشعوب، بل تعمق الفجوة أكثر، بما تزرعه من أحكام مسبقة أو تثبت ما هو قائم من أحكام جاهزة و تصورات مقولبة، بحكم انخراطه في صراع الحضارات و الديانات.

خلاصة:

يحاول هذا الأدب الصغير (Littérature Mineure) تجاوز مراحلة الأولى، أي من الانخراط الغامض في الهوية الكولونيالية فالتحول إلى أدب مقاومة في الخمسينيات والستينيات، إلى أدب يعيد النظر و بقوة في البنية السردية المؤسسة للنظام السياسي في السبعينيات و الثمانينيات، و من ثم إلى الدخول في صراع حاد مع الحركات الاسلامية، و بخاصة المسلحة منها في التسعينيات. و يمكن القول أن مرحلة "ما بعد الارهاب"، ستسمح لأدباء الذين كانوا "يجمعون" في كتاباتهم حول موضوع مركزي، أي الارهاب الاسلامي، إلى الانتقال إلى ما يمكن تسميته ب"الانفجار الموضوعاتي"، ليأخذ سبل عديدة مثل رواية السيرة الذاتية و الرواية التاريخية و الرواية العائلية، لكن ضمن الخروج عن الدوكسا و الحس المشترك والاحتجاج عليه و انتقاد كل الرموز التي اكتسبت شرعيتها من القصص المؤسسة للدولة الوطنية و التحليق بعيدا عنها، إلى محاولة الانخراط في العالمية بأشكال مختلفة. و الجدير بالذكر أن هذه الحركية التي يشهدها الأدب الجزائري سواء المكتوب باللغة الفرنسية أو ذلك المكتوب باللغة العربية لا يخرج عن اطار التحولات التي أحدثتها الشوملة و التهجين (Hybridité) التي تجد أسسها الإبيستيمولوجية في مفاهيم و نظريات ما بعد الكولونيالية و ما بعد الحداثة و ما بعد البنيوية.

إن هذا الأدب الصغير يحاول أن يتجاوز وضعه لكي يكون "كبيرا" و يخضع بالتالي لأليات "اليد الخفية" حسب أدم سميت، بكل وعي و مسؤولية ، و لكل أديب يخوض مغامرته الأدبية انطلاقا من استراتيجية محكمة و مدروسة.

[1] GUATTARI (Felix) et DELEUZE (Gilles) : Pour une littérature mineure, Paris, Editions de Minuit, 1975, pp. 29-33.

[2] ACHOUR (Christiane) : Abécédaires en devenir, Alger, ENAP, 1985, p. 368.

[3] LANASRI (Ahmed) : La littérature algérienne de l'entre-deux guerres, www.limag.refer.org/Textes/Iti10/Ahmed%20LANASRI.htm‎, p. 1.

[4]Idem : p.2.

[5] BONN (Charles) et ali : Littérature maghrébine d’expression française, Vanves, EDICEF, 1996, p.7.

[6] DJEGHLOUL (Abdelkader) : De Hamdan Khodja à Kateb Yacine, Oran, Editions Dar El Gharb, 2004, p.112.

[7] BONN (Charles) : Le roman algérien de langue française, Paris, Editions l’Harmattan, 1985, p.7.

[8] DJEGHLOUL (Abdelkader) : p.90.

[9] Voir : MOKHTARI (Rachid) : La graphie de l’Horreur, Alger, Editions Chihab, 2002.

[10] DAOUD (Mohamed) : La littérature algérienne et la communication interculturelle (in) revue Agapes Francophones, Editions de l’Université Ouest de Timisoara, Roumanie, 2012, p. 95.

[11] Voir, CASANOVA (Pascale) : La république mondiale des lettres, Paris, Editions du Seuil, 1999, revue et corrigée en 2008.

[12] DAOUD Mohamed: op-cit. p.96.

[13] GUATTARI (Felix) et DELEUZE (Gilles) : idem, pp. 29-33.

[14] MILIANI (Hadj) : Une littérature en sursis, Editions L’Harmattan , Paris, 2002, p. 225.

[15] BENDAAMOUCHE (Samra): Yasmina Khadra, (thèse de magister soutenu en 2009 à l’université de Batna –Algérie), p.58.

[16] BOURDIEU (Pierre) : Les règles de l’art, Editions du Seuil, Paris, 1992, p.p. 201 -245.

[17] Voir El Watan du 11 juin 2006.

[18] Voir El Watan du 25 février 2012.

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article